الأربعاء، 25 مايو 2011

وَإِذَا أُصِيبَ القَوْمُ فِي أَخْلاَقِهِمْ




وَإِذَا أُصِيبَ القَوْمُ فِي أَخْلاَقِهِمْ
فَأَقِمْ عَلَيهِمْ مَأْتَمًا وَعَوِيلاَ

وَبَيْنِي وَبَيْنَ العَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاةُ مَرِيرَةٌ
وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ

السرُّ إذًا في سَعادتنا وارتِقاء أرواحنا وصُعودها إلى العَلياء، هو شعورُنا بأنَّنا في طاعة الله، وأنَّ الله راضٍ عنَّا، وأنَّنا على الحقِّ وعلى درب الخير نَسِير في هذه الأيَّام الطيِّبة، من الانهِماك في الدَّعوة والانصِهار مع الحقِّ ومع الناس في تَوضِيح الحقِّ لهم، والأخْذ بأيديهم إلى الفِكر الصحيح والفهم المستنير، من خِلال المؤتمرات والاجتِماعات بالناس وسَماعهم منَّا، وبعدَها يضيع هذا الشُّعور منَّا؛ لأنَّنا لم نعدْ نَشعُر بأنَّنا في استِراحة جند مُحارِب، ولأنَّنا نسينا أنَّ الأيام دُوَلٌ؛
﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140].
هذه الآيات قِيلَتْ للمؤمنين بعد غزوة أحد لتربط على قلوبهم؛ ليَصبِروا ويُصابروا على طريق الحق والدَّعوة، وليعلَمُوا أنهم ما دامُوا مؤمنين لربِّهم طائعين فهم بخير حال.
أيها المُناضِلون، لا تنسَوْا أنَّ للكون إلهًا يُدبِّر أمرَه، ويختار ما يصلح بِحِكْمتِه؛
﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 68 - 70].
فهو الذي يخلُق كلَّ شيءٍ، ويعلَمُ كلَّ شيءٍ، وإليه مردُّ الأمر كلِّه في الأولى والآخِرة، وله الحمدُ في الأُولى والآخِرة، وله الحُكم في الدُّنيا وله الرَّجعة والمآب، وما يملكون أنْ يختاروا لأنفُسِهم ولا لغيرهم، فاللهُ يخلق ما يَشاء ويَختار، فهم لا يملكون الاختيارَ لأنفسهم فيختاروا الأمْن أو المخافة!
إنَّها الحقيقة التي كثيرًا ما يَنساها الناس، أو ينسون بعض جَوانِبها، إنَّ الله يخلُق ما يَشاء؛ لا يملك أحدٌ أنْ يقترح عليه شيئًا، ولا أنْ يزيد أو ينقص في خلقه شيئًا، ولا أنْ يعدِّل أو يُبدِّل في خلقه شيئًا، وإنَّه هو الذي يَختار من خلقه ما يَشاء ومَن يشاء لما يريد من الوظائف والأعمال، والتكاليف والمقامات، ولا يملك أحدٌ أنْ يقترح عليه شخصًا ولا حادثًا، ولا حركة ولا قولاً ولا فعلاً؛
﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾
لا في شأن أنفسهم ولا في شأن غيرهم، ومَرَدُّ الأمرِ كلِّه إلى الله في الصَّغير والكبير.
هذه الحقيقةُ لو استقرَّتْ في الإخلاد والضَّمائر لما سخط الناس شيئًا يحلُّ بهم، ولا استخفَّهم شيءٌ ينالونه بأيديهم، ولا أحزَنهم شيءٌ يفوتُهم أو يفلت منهم؛ فليسوا هم الذين يختارون، إنما اللهُ هو الذي يختار.
وليس معنى هذا أنْ يلغوا عُقولَهم وإرادتهم ونشاطهم، ولكن مَعناه أنْ يتقبَّلوا ما يقَع بعد أنْ يبذلوا ما في وُسعِهم من التفكير والتدبير أنْ يتقبَّلوا الاختِيار بالرِّضا والتسليم والقبول، فإنَّ عليهم ما في وسعهم، والأمر كلُّه بعد ذلك لله؛
﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾
فهو مُجازِيهم بما يعلَمُ مِن أمْرهم، مختارٌ لهم ما هم له أهل، مِن هدًى أو ضلال،
﴿ وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾
فلا شريك له في خلق ولا اختيار،
﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ﴾
على اختِياره، وعلى نعمائه، وعلى حِكمته وتَدبيره، وعلى عَدله ورَحمته، وهو وحدَه المختصُّ بالحمْدِ والثناء،
﴿ وَلَهُ الْحُكْمُ ﴾
يقضي في عِباده بقضائه، لا رادَّ له، ولا مبدِّل لحكمه
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾،
فيَقضِي بينكم قضاءَه الأخير؛ "في ظلال القرآن"، بتصرُّف كبير.
ولنا في رسولنا القدوة والأسوة؛ حينما ذهَب إلى الطائف يلتَمِس الزَّرع في أرْضِ ظنَّها خصبةً، فما وجَدَها إلاَّ سبخًا من الأرض، فبعدما أغروا به السُّفهاء والصِّبيان وأدمَوْا قدمَه الشَّرِيف وأسالوا الدمع من عينيه الشريفتين، اجتَمَع عرقٌ طاهر ودموعٌ نقيَّة ودمٌ شريف - رفَع يدَيْه إلى السماء؛ ليرى هل هناك رضًا من الله؟
هل هو على طريق الحق سائر؟
أم أنه أخطأ في شيء؟
وأرجع الأمرَ إنْ كان هناك عدَم انتِشارٍ للدَّعوة إليه؛
ظَنًّا منه أنَّه هو المقصِّر،
وأنَّ به خللاً،
وتُجِيبه السماء برحلة التكريم والاحتِفاء؛
رحلة الإسراء والمعراج
، حتى يطمئنَّ قلبُه أنَّه قد أدَّى الأمانة،
بل على أكمل وجهٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
واقرَأ معي هذه الكلمات وأنت تضَع نفسَك مكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم، طَرْدٌ ومحاربة وتعذيب؛
تعذيبٌ بدني، والأعظم منه التعذيب النفسي الذي يَشعُر به كلُّ داعية عندما لا يجد لدعوته صدًى، ولا يجد لزرعه تربةً خصبة، ولا يجد لدِينِه جنديًّا ناصِرًا ومُعِينًا، فيطلب وقايةً من الله كما يُوقَى الوليد؛ ((اللهم إليك أشكو ضَعْفَ قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهَواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى عدوٍّ يتجهَّمني، أم إلى قريبٍ ملَّكتَه أمري؟ إنْ لم تكن ساخِطًا عليَّ فلا أُبالِي، غير أنَّ عافيتَك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءَتْ له السماوات والأرض، وأشرَقَتْ له الظُّلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة - أنْ تحلَّ عليَّ غضبَك، أو تُنزِل عليَّ سخطك، لك العُتبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوَّة إلا بك))؛ رواه: الطبراني في "الكبير"، وابن جرير في "التاريخ"، وابن سعد في "الطبقات"، وحسَّنه الإمام السيوطي في "الجامع الصغير من حديث البشير النذير".
كان ابن عَطاء يقول في مُناجاته: ماذا وجَد من فقَدَك؟ وما الذي فقَد مَن وجَدَك؟ لقد خابَ مَن رضِي بدونك بدلاً، ولقد خَسِرَ مَن بغى عنك متحولاً.
أيُّها الظالمون، أيُّها البُغاة المفسدون، ربما تكسبون جولةً هي فوزٌ ومتعة في ظنِّكم، ولكنها متعةُ الحَياة الدُّنيا الزائلة، وربما أهل الحق يخسرون جولةً مع أهل الزَّيغ والضَّلال، ولكن إيَّاكم أنْ تغترُّوا بِمُتَعِهم الزائلة، وزينتهم المزيَّفة؛ ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196 - 197].
وأنتم في الحقيقة من فازَ برضا الله، والله حسبُكم، والله يَكفِيكم.
يقول ابن كثير في "تفسيره": يقول - تعالى -: لا تَنظُروا إلى ما هؤلاء الكفَّار مُتْرَفون فيه، من النِّعْمَة والغِبْطَة والسُّرور، فعَمَّا قليلٍ يزول
صَلُّوا عَلَيْهِ وَآلِهِ

بَلَغَ العُلَا بِكَمَالِهِ
كَشَفَ الدُّجَى بِجَمَالِهِ
عَظُمَتْ جَمِيعُ خِصَالِهِ

هذا كلُّه عنهم، ويصبحون مُرتَهنين بأعمالهم السيِّئة، فإنما نَمُدُّ لهم فيما هم فيه استِدراجًا، وجميع ما هم فيه ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 197].
وهذه الآية كقوله - تعالى -: ﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [لقمان: 24].
وقال - سبحانه -: ﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴾ [غافر: 4].
وقال - تعالى -: ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [الطارق: 17].
وهكذا لَمَّا ذكَر حال الكفَّار في الدنيا، وذكَر مآلهم إلى النار، قال بعده: ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: ضيافة من عند الله، ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198]، فهم كسبوا منصبًا وسلطانًا وزعامةً، وربما وجاهة بين الناس، وكلها مزيفة ممقوتة في أصلها، حتى عند مَن ينبَهِرون بها ويحتَفِلون من أجلها.
أيها الأبرارُ الأطهار، يا مَن سهرتم الليالي وأجهَدتم أنفُسَكم في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل، لا تحزَنُوا؛ فكلُّ شيء مُسطَّر، وكل أمرٍ مُدبَّر بحكمة بالغة، واسمع معي بأذني قلبك قولَ ربِّك؛ ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22 - 23].
فإيَّاك أنْ تحزَن؛ فكلُّ ذلك بتدبير الله، واعلَم أنَّ للكون ربًّا يُدبِّر أمورَه، هو المالك لكلِّ شيءٍ، المتصرِّف في كونه، وأنت عبدٌ من عباده في كونه، ولو شاء أنْ يُحقِّق النجاح على يدَيْك لفعل، ولكنَّه يُؤجِّل لأجَلٍ أجَّلَه، ولوقتٍ وقَّتَه؛ ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
يقول سيد قطب في "ظلاله": ثم التفاتة واقعيَّة إلى الفتنة المستكنة في المَتاع المُتاح في هذه الأرض للكفَّار والعُصاة والمعادِين لمنهج الله، التفاتة لإعطاء هذا المَتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة، حتى لا يكون فتنةً لأصحابه، ثم كيلا يكون فتنةً للمؤمنين، الذين يُعانُون ما يُعانُون، من أذًى وإخراج من الدِّيار، وقتل وقِتال، ومعاداة لأهلِيهم وعَشائرهم، وتقلُّب الذين كفروا في البلاد، مَظهَر من مظاهر النِّعمة والوجدان، ومن مظاهر المكانة والسلطان، وهو مظهَرٌ يَحِيك في القُلوب منه شيءٌ لا محالة، يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين وهم يُعانُون الشَّظَفَ والحِرمان، ويُعانُون الأذَى والجهد، ويُعانُون المُطارَدة أو الجهاد، وكلها مشقَّات وأهوال، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستَمتِعون، ويحيك منه شيءٌ في قلوب الجماهير الغافلة، وهي ترى الحقَّ وأهله يُعانُون هذا العَناء، والباطل وأهله في مَنْجَاةٍ، بل في مَسلاة! ويحيك منه شيء في قلوب الضالِّين المبطلين أنفسهم؛ فيزيدهم ضَلالاً وبطرًا ولجاجًا في الشر والفساد، هنا تأتي هذه اللمسة: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196 - 197].
متاع قليل ينتهي ويذهب، أمَّا المأوى الدائم الخالد، فهو جهنَّم وبئس المهاد، وفي مُقابِل المتاع القليل الذاهب جنَّات وخلود وتكريمٌ من الله؛ ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198]، وما يشكُّ أحدٌ يضَع ذلك النصيب في كِفَّة، وهذا النصيب في كِفَّة، أنَّ ما عند الله خيرٌ للأبرار، وما تبقى في القلب شبهةٌ في أنَّ كفَّة الذين اتَّقَوْا أرجح من كفَّة الذين كفَرُوا في هذا الميزان، وما يتردَّد ذو عقلٍ في اختِيار النَّصيب الذي يختارُه لأنفُسهم أولو الألباب!
إنَّ الله - سبحانه - في موضع التربية، وفي مَجال إقرار القِيَم الأساسيَّة في التصوُّر الإسلامي - لا يَعِدُ المؤمنين بالنَّصر، ولا يعدهم بقهْر الأعداء، ولا يَعِدُهم بالتَّمكين في الأرض، ولا يَعِدُهم شيئًا من الأشياء في هذه الحياة ممَّا يَعِدُهم به في مواضع أخرى، وممَّا يكتُبُه على نفسه لأوليائه في صِراعهم مع أعدائه، إنَّه يَعِدُهم هنا شيئًا واحدًا هو ﴿ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ ﴾.
فهذا هو الأصل في هذه الدَّعوة، وهذه هي نقطة الانطِلاق في هذه العقيدة: التجرُّد المطلق من كلِّ هدف ومن كلِّ غاية، ومن كلِّ مَطمَع حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله، وقهْر أعداء الله، حتى هذه الرَّغبة يريد الله أنْ يتجرَّد منها المؤمنون، ويَكِلُوا أمرَها إليه، وتتخلَّص قلوبُهم من أنْ تكون هذه شَهوةً لها ولو كانت لا تخصُّها!
هذه العقيدة عَطاء ووفاء وأداء فقط، وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصرٍ وغلبة وتمكين واستِعلاء، ثم انتظار كلِّ شيء هناك!
ثم يقَع النَّصر، ويقَع التمكين، ويقَع الاستِعلاء، ولكن هذا ليس داخِلاً في البَيْعة، ليس جُزءًا من الصَّفقة، ليس في الصَّفقة مُقابِل في هذه الدنيا، وليس فيها إلاَّ الأداء والوَفاء والعَطاء والابتِلاء.
على هذا كانت البَيْعة والدعوة مُطارَدة في مكَّة، وعلى هذا كان البيع والشراء، ولم يمنَح الله المسلمين النَّصر والتَّمكين والاستِعلاء، ولم يُسلِّمهم مَقالِيدَ الأرض وقِيادة البشريَّة - إلاَّ حين تجرَّدوا هذا التجرُّد، ووفوا هذا الوفاء.
عن جابرٍ - رضِي الله عنه - قال: "... فاجتَمَعنا عِندَه من رجلٍ ورجلين حتى توافَيْنا فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايِعك؟ قال: ((تُبايِعوني على السَّمع والطَّاعة، في النَّشاط والكسل، والنَّفَقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأنْ تقولوا في الله، لا تَخافون في الله لَوْمَةَ لائم، وعلى أنْ تَنصُروني؛ فتمنعوني إذا قَدِمتُ عليكم ممَّا تمنَعُون منه أنفُسَكم وأزواجَكم وأبناءكم؛ ولكم الجنة))، قال: فقُمنا إليه فبايَعناه وأخَذ بيَدِه أسعد بن زُرارة وهو من أصغَرِهم، فقال: رُوَيدًا يا أهلَ يثرب؛ فإنَّا لم نَضرِب أكبادَ الإبل إلاَّ ونحن نعلَمُ أنَّه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّ إخراجَه اليوم مفارقة العرب كافَّة وقتْل خِياركم، وأنْ تعضَّكم السُّيوف، فإمَّا أنتم قومٌ تَصبِرون على ذلك وأجرُكم على الله، وإمَّا أنتُم قومٌ تَخافُون من أنفُسِكم جَبِينة فبيِّنوا ذلك؛ فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أَمِطْ عنَّا يا أسعد، فوالله لا ندَع هذه البَيْعة أبدًا ولا نسلبها أبدًا، قال: فقُمنا إليه فبايَعناه، فأخَذ علينا وشرَط علينا، ويُعطِينا على ذلك الجنَّة"؛ رواه أحمد، وصحَّحه الألباني والحاكم وقال: إسناده جيد، ووافَقه الذهبي.
هكذا "الجنة"، والجنة فقط، لم يقل: النصر والعز، والوحدة والقوة، والتمكين والقيادة، والمال والرَّخاء ممَّا منَحَهُم الله وأجْراه على أيدِيهِم، فذلك كلُّه خارجٌ عن الصَّفقة!
وهكذا ربح البَيْع ولا نقيل ولا نستقيل، لقد أخَذُوها صفقةً بين مُتَبايعين؛ أنهي أمرها، وأمضي عقدها، ولم تعد هناك مساومة حولها!
وهكذا ربَّى الله الجماعة التي قدَّر أنْ يضع في يدها مَقالِيد الأرض، وزِمام القيادة، وسلَّمها الأمانة الكُبرى بعدَ أنْ تجرَّدت من كلِّ أطماعها، وكلِّ رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختصُّ منها بالدَّعوة التي تحملها، والمنهج الذي تُحقِّقه، والعقيدة التي تَمُوتُ من أجلها، فما يَصلُح لحمل هذه الأمانة الكبرى مَن بقي له أَرَبٌ لنفسه في نفسه، أو بقيَتْ فيه بقيَّة لم تَدخُل في السِّلم كافَّة.
ثم يَجِيء الإيقاع الأخير في نِداء الله للذين آمَنُوا، وتلخيص أعباء المنهج، وشرط الطريق؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
إنَّه النِّداء العُلْوي للذين آمَنوا، نداؤهم بالصِّفة التي تربطهم بمصدر النِّداء، والتي تُلقِي عليهم هذه الأعباء، والتي تُؤهِّلهم للنِّداء وتُؤهِّلهم للأعباء، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، النِّداء لهم بالصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى.
وكذلك بالدَّعوة إلى الاحتِمال والمجاهدة، ودفْع الكيد وعدَم الاستِماع لدُعاة الهزيمة والبَلبَلة، والصبر هو زادُ الطريق في هذه الدعوة، إنَّه طريق طويل شاقٌّ، حافل بالعَقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء.
الصبر على أشياء كثيرة؛ الصبر على شَهوات النفس ورَغائبها، وأطماعها ومَطامِحها، وضَعْفها ونقْصها، وعجَلتها وملالها من قريب!
والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضَعفهم وجَهلهم وسُوء تصوُّرهم، وانحِراف طباعهم، وأثرتهم، وغُرورهم، والتِوائهم، واستعجالهم للثمار!
والصبر على تنفُّج الباطل، ووَقاحة الطُّغيان، وانتِفاش الشرِّ، وغلَبَة الشَّهوة، وتَصعِير الغُرور والخُيَلاء!
والصبر على قلَّة الناصر، وضعف المُعِين، وطُول الطَّريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضِّيق!
والصبر على مَرارة الجهاد لهذا كلِّه، وما تُثِيره في النَّفس من انفِعالات مُتنوِّعة؛ من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثِّقة أحيانًا في الخير، وقلَّة الرَّجاء أحيانًا في الفِطرة البشريَّة؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط!
والصبر بعد ذلك كلِّه على ضبْط النفس في ساعة القُدرة والانتِصار والغلبة، واستِقبال الرَّخاء في تَواضُع وشُكر، وبدون خُيَلاء وبدون اندِفاع إلى الانتِقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبَقاء في السرَّاء والضرَّاء على صلة بالله، واستسلامٍ لقدَرِه، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثِقة وخُشوع.
والصبر على هذا كلِّه وعلى مثله ممَّا يُصادِف السالك في هذا الطريق الطويل لا تُصوِّره حقيقة الكلمات؛ فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المُعاناة، إنما يُدرِك هذا المدلول مَن عانَى مشقَّات الطريق، وتذوُّقها انفعالات وتجارب ومَرارات! والذين آمَنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة مِن ذلك المدلول الحقيقي، فكانوا أعرف بمذاق هذا النِّداء، وكانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يُزاوِلوه.
والمصابرة، وهي مُفاعَلة من الصبر، مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يُحاوِلون جاهِدين أنْ يفلُّوا من صبر المؤمنين، مصابرتها ومصابرتهم، فلا يَنفَد صبر المؤمنين على طُول المجاهدة، بل يظلُّون أصبر من أعدائهم وأقوى؛ أعدائهم من كَوامِن الصدور وأعدائهم من شِرار الناس سواء، فكأنَّما هو رِهان وسِباق بينهم وبين أعدائهم، يُدعَون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار، ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأنْ يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء، وإذا كان الباطل يصرُّ ويصبر ويَمضِي في الطريق، فما أجدر الحق أنْ يكون أشدَّ إصرارًا وأعظم صَبرًا على المُضِيِّ في الطريق! ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 6]، الكفَرَة والفسَقَة وأهل الضلال يُصبِّرون أنفسهم فما أجدرنا بهذا منهم!
والمرابطة الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثُّغور المعرَّضة لهجوم الأعداء، وقد كانت الجماعة المُسلِمة لا تغفل عيونها أبدًا ولا تستَسلِم للرقاد، فما هادَنها أعداؤها قطُّ، منذ أنْ نُودِيت لحمل أعباء الدَّعوة، والتعرُّض بها للناس؛ "في ظِلال القُرآن" بتصرُّف كبير.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
والصلاة والسلام على مَن:
نعيش حالةً من السَّعادة والطمأنينة وراحة البال في مَواسِم الخير ونَفحات الرحمن، وعندما نُقدِّم أيَّ عملٍ من أعمال الخير، وخاصَّة عند الجهاد في سبيل الله بالقتال أو بالكلمة أو اللسان، أو بمحارَبة الفَساد والمفسدين بشتَّى الأعمال، تَجِد صَفاء الرُّوح وطمأنينة النَّفس وقرَّة العين، وبعد انقِضاء الأيَّام الطيِّبة هذه تتغيَّر الحال؛ فقلقٌ واضطراب وفتور، أو على الأقلِّ لا نشعُر بما كُنَّا نشعُر به في أيَّام التضحية والفِداء، والدِّفاع عن الإسلام وعن دين الله، ونشر الخير في المجتمع، ولا سيَّما إذا لم يُحقِّق العمل والجهاد والتضحية الثَّمرة المرجوَّة، فإذا لم نُحقِّق نَجاحًا ظاهِرًا ولم نجنِ ثمرةً يانعة، حزن القلب، ودمعَتِ العين، وخيَّم الصمت، وانتابَنا شُعورٌ مُضادٌّ قد يُؤدِّي بالبعض إلى ضعْف الثِّقة أحيانًا في الخير، وقلَّة الرَّجاء أحيانًا في الفِطرة البشريَّة، والملل والسأم واليأس والقُنوط أحيانًا.
فما السبب في هذه الحال التي نكون عليها في هذه الأيَّام؟
وما السبب في تغيُّرها وانتهاء ثمرتها؟
وكيف الوُصول إلى شُعورٍ للراحة والسَّعادة دائمًا؟
وكيف الوُصول إلى عِلاج ودَواء ناجع لهذه الحالة؟
فإلى اليائسين من أبناء الوطن، إلى المُحبطِين إلى الحقِّ المستكين، إلى الباحثين عن الحق والسعادة ورضا ربِّهم، وإلى الباطل المُنتَفِش، إليهم جميعًا هذه الكلمات.
يقول الشاعر الباحث عن رضا ربِّه حتى لو خسر كلَّ شيء في الدنيا وما عليها، وحتى لو ذَاق الأمرَّين:


وللهِ درُّ القائِل:

ليست هناك تعليقات: