الثلاثاء، 31 مايو 2011

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} "الصف"

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا الخطابللمؤمنين:

أولاً: لأنهم الذين تنفعهم الذكرى.
ثانيًا: لتطهيرهم وتزكيتهم من الأخلاق السيئة.
قال القرطبي: "جاءالاستفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لايفعله، أما إن كان ذلك في الماضي، فإنه يكون كذبًا، وأما في المستقبل، فيكون ذلكإخلافًا بالوعد، وكلاهما مذمومٌ"
قال ابن عباس - رضيالله عنه -: "كان ناسٌ من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا
أن الله - عز وجل - دلَّنا على أحبِّ الأعمال إليه فلنعمل بها ، فأخبرالله نبيَّه أن أحبَّ الأعمال إليه: إيمانٌ لا شَكَّ فيه، وجهاد أهلمعصيته، فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناسٌ من المؤمنين، وشقَّ ذلك عليهم، فأنزل الله الآية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ
،وهذا اختيارُ ابن جرير - رحمه الله.
قال الشيخ عبد الرحمن بنسعدي - رحمه الله -:
"قوله تعالى : {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}
؛ أي: لم تقولون
الخير، وتحثُّون عليه، وربما تَمَدَّحْتُم به، وأنتم لا تفعلونه،وتنهون عن الشرِّ، وربما نزَّهتم أنفسكمعنه، وأنتم متلوِّثون متَّصفونبه؟! ولهذا ينبغي للآمِر بالخير أن يكون أوَّل الناس مُبَادرةً إليه،والنَّاهي عن الشرِّ أن يكون أبعدَ الناس عنه". اهـ[3].
عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: أنه سمع النبي - صلىالله عليه وسلم - يقول: ((يُجاءبالرَّجُل يوم القيامة، فيُلقى في النار،فتندلق أَقْتَابُه[4]، فيدور بها كما يدور الحمار برَحاه، فيجتمع
أهلالنار عليه؛ فيقولون: أي فلان، ما شأنُك؟ أليس كنتَ تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عنالمنكر؟!
فيقول: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))



وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلىالله عليه وسلم - قال: ((مررتُ ليلة أُسريَ بي على قومٍ تُقرَض شفاهُهم بمقاريضَ[6] من نارٍ؛ فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبريل؟! قال: خطباءٌ من أمَّتِكَ، يقولون ما لايفعلون))

قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنتَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ
قَال الرَّاغب: "المَقْتُ: هو البُغْض الشَّديد لِمَنْ تراه فَعَل القبيح[8]؛ كما في قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَانَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً}"لنساء: 22"


قال النَّخَعيُّ: "ثلاثُ آياتٍ منعتني أن أقُصَّ على الناس: قوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ}، وقول شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ}،
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوالِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}"



قال إبراهيم التَّيْمِيُّرحمه الله -: "ما عرضتُ قولي على عملي؛ إلا خشيتُ أن أكون مُكَذِّبًا"
ومن فوائد الآيتين الكريمتين:
أولاً: استدلَّ بها بعض أهل العلم على وجوب الوفاء بالوعد

عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آية المنافق ثلاثٌ: إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان))
قال ابن حجر: "أصل الدِّيانة منحصرٌ في ثلاثٍ: القول،والفعل، والنية، فنبَّه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخَلْف".
عن عبدالله بن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا صبيٌّ، فذهبتُ لأخرج لألعب،فقالت أمي: يا عبدالله، تعال أُعْطِكَ؛ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنَّكِ لو لم تفعلي، كُتِبَتْ عليك كذبةً))

ثانيًا: إن العلم قرين العمل؛ ولذلك يسأل المرء يوم القيامة عن علمه: ماذا عملبه؟
جاء في حديث أبي بَرْزَة الأَسْلَمي - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لاتزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل: عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن علمه: فيمَ فعل؟ وعن ماله: من
أين أكتسبه، وفيمَ أنْفَقَهُ؟ وعن جسمه: فيمَ أبلاه؟))

وعن جندب بن عبدالله - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَثَلُ الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كَمَثَل السِّراج: يُضيء للناس، ويحرق نفسَه))
قال شيخ الإسلام ابنتيميَّة - رحمه الله -: أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة: عالمٌ لم ينفعه الله بعلمه، فذنبُه من جنس ذنب اليهود.

ثالثًا: أن الله - عزَّوجلَّ - نهى المؤمن أن يقول ما لا يفعل؛ لكن لو كان المؤمن مُقَصِّرًا في طاعة الله، مرتكبًا لبعض المعاصي - فإن ذلك لا يُسقِط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍفَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} المائدة: 78 79.
وعن أبي سعيد الخُدْرِيّ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلىالله عليه وسلم - قال: ((مَنْ رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان))
كان الحسن - رضي الله عنه - إذا نهى عن شيءٍ لا يأتيه أصلاً، وإذا أمر بشيءٍ كان شديد الأَخْذ به، وهكذا تكون الحكمة.
قال أبو الأسود الدُّؤلي:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إِذَافَعَلْتَ عَظِيمُ


ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَاانْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ


فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْعِلْمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
يقول الامام الشافعى رحمه الله تعالى
ياواعظا للناس عما انت فاعله
يامن يعد عليه العمر بالنفس
احفظ لشيبك من عيب يدنسه
ان البياض قليل الحمل للد
كحامل لثياب الناس يغسلها
وثوبه غارق فى الرجس والنجس
تبغى النجاة ولم تملك طريقتها
ان السفينة لا تجرى على اليبس
ركوبك النعش ينسيك الركوب على
ما كنت تركب من بغل ومن فرس
يوم القيامة لا مال ولا ولد
وظمة القبر تنسى ليلة العرس
في الختام لا أسألكم إلا الدعاء لي ولكافة المسلمين بالهدايا
اللهم أني بلغت اللهم فشهد

الأحد، 29 مايو 2011

جمال الرَّبيع ينبض بالأمل

من بين الضُّلوع يسمعُ القلبُ أنينَ الجراح، الجفونُ خائفةٌ تأبى أن تغمضَ حتَّى لا تذوقَ عذاباتِ حرِّ دموعي،

فهي صابرةٌ تشكو لرمشِها طولَ سهرِها؛ إذ تتوقُ للرَّاحة من سنين،

شفقاتُ الغروب خطفتِ البصرَ لحركاتِ ذاك الطَّيرِ العائدِ الباكي،

على جناحيه قصةُ دموعي، لا يحتملُ همساتِ الكلمات،


يحومُ بين الجبالِ المخضَّبة جنباتُه بدموعه، التي تشقَّقتْ من جذورِها من بكاءِ شمس الغُروب،

يا من تنظرُ دموعَ حروفي، امنحني ابتسامةً حرفية، أو دعوةً قلبية، لعلَّ الجفاءَ يكون له انتهاءٌ،
أنوارُ الشَّمس بدفئها تداعبُ جنباتِ قلبي، قطراتُ النَّدى تبكي، نسماتٌ ونسمات تغازِلُ وجنتي، تحيي جسدي، تريدُ أن تمحي آثارَ جراحِ الزَّمان، هنا الجمالُ ارتسمَ برسمِ جمال الرَّبيع،

تزين بأطياف أبهرتْ كلماتٍ أسيرةً لذكرياتِ ما مضى،
لعمرُك يا من تقرأ كلمَاتي هذه، لا قلمي ولا أوراقي، حتَّى فكرى ولساني في عجزٍ عن وصفِ جمال الرَّبيع، كن معي لتأخذَ منه الأملَ والمحبة،
لينتهي الألَمُ وما يحجب السَّعادة عن قلوبِنا، يا ألله،
الأملُ والمحبة عندك فأعطِنا ولا تحرِمنا، أكرمْنا بعفوِك وحبِّك،

قلوبنا لك تتشوق، مولانا لا تحرمْنا من رفقةِ نبيِّك في أعلى الجنان بجوارِك مع الصَّحابة الأخيارِ،

والصَّلاةُ والسَّلام على نبي الرَّحمة والخير محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم.

حسام الحق

السبت، 28 مايو 2011

كلمات أعجبتني من أخت تنصح أختها الصغرى

-بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
انصحك يا أختي يامن ستدخلي حياة جديدة لم تتعودي ولم تعهديها من قبل...

كوني واقعية.ابتعدي عن الأحلام......فليس كل ما تتمنيه من سعادة ستحصلين عليها...

ولا تكوني خيالية..بأن تحلمي بحياة لا تشكو من المشاكل....وبأن حياتك ستصبح عسل لذيذ....بل الحياة تجربة تمرين بها ...تجعلك تذوقين الحياة بمرارتها وحلاوتها....

فعيش واقع...مع أمل وحلم ليس مستحيل الوصول اليه....

لكن لا تعيشي خيال.....لا يمكنك الفرار منه ......
ومن خلاله سيجعلك كئيبة لأنك لم تحصلي على الشيء المطلوب...ومنها تبدأ المشاكل....







عزيزتي..اعرفي بأنك ستكونين في عهدة رجل غير والدك..أي ستتغير حياتك....
ويجب أن تكوني في اطار المسؤلية ولا تتخاذلي...لأنك ستكوني أم في المستقبل..فلا تكوني مستهترة....

عيشي حياتك الجديدة...بشفافيتك وصراحتك وصدق أحساسك...

لا تلبسي ثوب ليس بمقاسك...مما يجعلك مختنقه في لبسه.....











ان المظهر ليس هو ما يبحث عنة الرجل في الاساس بل الجوهر فحافظي على نفسكي واظهري لة شخصيتك بكل شفافية.
احرصي علي تثقيف نفسك خصوصا الجوانب التي تمس ولها علاقة بالحياة الزوجية المستقبلية ان شالله .
اظهري لة اهتماتك الاخرى ولاتغالي كثيرا في مظهرك .
ابدي لة ما يحبة بالمعقول .
استغلي المناسبات الخاصة والمواقف التي يمكنك استغلالها للكشف عن بعض ما لايظهر لك منة.
تقربي من اهلة كثير وتددي لهم حتى يعاملوك بالمثل وهذا سيريحك ويساعدك التواصل والتفاهم معهم مستقبلا





وأخيرا....عزيزتي.....الحياة هي عبارة عن بحر وانت عبارة عن سفينة بقبطان....
أن كنت ماهرة ...ستصلي لبر الأمان.....
أما اذا كنت تفتقرينها.....فستضيعين في هذا البحر من دون الوصول لمرسى الأمان
.
أتمنى أن تكون نالت أعجابكم أيضا
في آمان الله
دعواتكم

الخميس، 26 مايو 2011

جرح جائِر وكلمات تأبى الخروج




كلَّما انتفض القلمُ ليبوح بما يجول في الخاطِر، وما يسكُن في القلب مِن جرح جائِر، تبقَى هناك كلماتٌ قابعة تأبَى الخروج؛ لأنَّ الورق لا يحتمل وجودَها، ولا الحبر يستطيع رسمَ حروفها، حتى اللِّسان يعجِز عن النُّطق بها، فتبقَى خالدةً خلف الابتِسامات تتفنَّن في رسْمِها.

تبقى الكلمات تَحكي عنْ قصَّة آلام وأحزان، آمال وأمنيات، تتحاكَى في خلجات النفْس، حلمها بأن تكون أنوار شمس الصباح حبرًا يكتُب انتهاء قصَّة دموع تصرُخ تحتَ جناح الطير الغافي على قمَّة الجبل المتألِّم من دموعه لدموعي؛ إذ هو شلاَّل يهدر مِن عنده حتى سفْح الجبل، غمر الزهور أرْحل الفراشات، والحزن ما زال يجوب أرجاءَ المكان.

يبقَى الأمل يطلُّ في كل حين من عندِ الرحمن الرحيم، فلا حزن ولا أنين فالله حي لا ينام، وخزائن الجليل ملأى إلى يومِ الدِّين.

الأربعاء، 25 مايو 2011

وَإِذَا أُصِيبَ القَوْمُ فِي أَخْلاَقِهِمْ




وَإِذَا أُصِيبَ القَوْمُ فِي أَخْلاَقِهِمْ
فَأَقِمْ عَلَيهِمْ مَأْتَمًا وَعَوِيلاَ

وَبَيْنِي وَبَيْنَ العَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ
وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالحَيَاةُ مَرِيرَةٌ
وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ

السرُّ إذًا في سَعادتنا وارتِقاء أرواحنا وصُعودها إلى العَلياء، هو شعورُنا بأنَّنا في طاعة الله، وأنَّ الله راضٍ عنَّا، وأنَّنا على الحقِّ وعلى درب الخير نَسِير في هذه الأيَّام الطيِّبة، من الانهِماك في الدَّعوة والانصِهار مع الحقِّ ومع الناس في تَوضِيح الحقِّ لهم، والأخْذ بأيديهم إلى الفِكر الصحيح والفهم المستنير، من خِلال المؤتمرات والاجتِماعات بالناس وسَماعهم منَّا، وبعدَها يضيع هذا الشُّعور منَّا؛ لأنَّنا لم نعدْ نَشعُر بأنَّنا في استِراحة جند مُحارِب، ولأنَّنا نسينا أنَّ الأيام دُوَلٌ؛
﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140].
هذه الآيات قِيلَتْ للمؤمنين بعد غزوة أحد لتربط على قلوبهم؛ ليَصبِروا ويُصابروا على طريق الحق والدَّعوة، وليعلَمُوا أنهم ما دامُوا مؤمنين لربِّهم طائعين فهم بخير حال.
أيها المُناضِلون، لا تنسَوْا أنَّ للكون إلهًا يُدبِّر أمرَه، ويختار ما يصلح بِحِكْمتِه؛
﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 68 - 70].
فهو الذي يخلُق كلَّ شيءٍ، ويعلَمُ كلَّ شيءٍ، وإليه مردُّ الأمر كلِّه في الأولى والآخِرة، وله الحمدُ في الأُولى والآخِرة، وله الحُكم في الدُّنيا وله الرَّجعة والمآب، وما يملكون أنْ يختاروا لأنفُسِهم ولا لغيرهم، فاللهُ يخلق ما يَشاء ويَختار، فهم لا يملكون الاختيارَ لأنفسهم فيختاروا الأمْن أو المخافة!
إنَّها الحقيقة التي كثيرًا ما يَنساها الناس، أو ينسون بعض جَوانِبها، إنَّ الله يخلُق ما يَشاء؛ لا يملك أحدٌ أنْ يقترح عليه شيئًا، ولا أنْ يزيد أو ينقص في خلقه شيئًا، ولا أنْ يعدِّل أو يُبدِّل في خلقه شيئًا، وإنَّه هو الذي يَختار من خلقه ما يَشاء ومَن يشاء لما يريد من الوظائف والأعمال، والتكاليف والمقامات، ولا يملك أحدٌ أنْ يقترح عليه شخصًا ولا حادثًا، ولا حركة ولا قولاً ولا فعلاً؛
﴿ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾
لا في شأن أنفسهم ولا في شأن غيرهم، ومَرَدُّ الأمرِ كلِّه إلى الله في الصَّغير والكبير.
هذه الحقيقةُ لو استقرَّتْ في الإخلاد والضَّمائر لما سخط الناس شيئًا يحلُّ بهم، ولا استخفَّهم شيءٌ ينالونه بأيديهم، ولا أحزَنهم شيءٌ يفوتُهم أو يفلت منهم؛ فليسوا هم الذين يختارون، إنما اللهُ هو الذي يختار.
وليس معنى هذا أنْ يلغوا عُقولَهم وإرادتهم ونشاطهم، ولكن مَعناه أنْ يتقبَّلوا ما يقَع بعد أنْ يبذلوا ما في وُسعِهم من التفكير والتدبير أنْ يتقبَّلوا الاختِيار بالرِّضا والتسليم والقبول، فإنَّ عليهم ما في وسعهم، والأمر كلُّه بعد ذلك لله؛
﴿ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾
فهو مُجازِيهم بما يعلَمُ مِن أمْرهم، مختارٌ لهم ما هم له أهل، مِن هدًى أو ضلال،
﴿ وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾
فلا شريك له في خلق ولا اختيار،
﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ﴾
على اختِياره، وعلى نعمائه، وعلى حِكمته وتَدبيره، وعلى عَدله ورَحمته، وهو وحدَه المختصُّ بالحمْدِ والثناء،
﴿ وَلَهُ الْحُكْمُ ﴾
يقضي في عِباده بقضائه، لا رادَّ له، ولا مبدِّل لحكمه
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾،
فيَقضِي بينكم قضاءَه الأخير؛ "في ظلال القرآن"، بتصرُّف كبير.
ولنا في رسولنا القدوة والأسوة؛ حينما ذهَب إلى الطائف يلتَمِس الزَّرع في أرْضِ ظنَّها خصبةً، فما وجَدَها إلاَّ سبخًا من الأرض، فبعدما أغروا به السُّفهاء والصِّبيان وأدمَوْا قدمَه الشَّرِيف وأسالوا الدمع من عينيه الشريفتين، اجتَمَع عرقٌ طاهر ودموعٌ نقيَّة ودمٌ شريف - رفَع يدَيْه إلى السماء؛ ليرى هل هناك رضًا من الله؟
هل هو على طريق الحق سائر؟
أم أنه أخطأ في شيء؟
وأرجع الأمرَ إنْ كان هناك عدَم انتِشارٍ للدَّعوة إليه؛
ظَنًّا منه أنَّه هو المقصِّر،
وأنَّ به خللاً،
وتُجِيبه السماء برحلة التكريم والاحتِفاء؛
رحلة الإسراء والمعراج
، حتى يطمئنَّ قلبُه أنَّه قد أدَّى الأمانة،
بل على أكمل وجهٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
واقرَأ معي هذه الكلمات وأنت تضَع نفسَك مكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم، طَرْدٌ ومحاربة وتعذيب؛
تعذيبٌ بدني، والأعظم منه التعذيب النفسي الذي يَشعُر به كلُّ داعية عندما لا يجد لدعوته صدًى، ولا يجد لزرعه تربةً خصبة، ولا يجد لدِينِه جنديًّا ناصِرًا ومُعِينًا، فيطلب وقايةً من الله كما يُوقَى الوليد؛ ((اللهم إليك أشكو ضَعْفَ قوَّتي، وقلَّة حيلتي، وهَواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى عدوٍّ يتجهَّمني، أم إلى قريبٍ ملَّكتَه أمري؟ إنْ لم تكن ساخِطًا عليَّ فلا أُبالِي، غير أنَّ عافيتَك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءَتْ له السماوات والأرض، وأشرَقَتْ له الظُّلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة - أنْ تحلَّ عليَّ غضبَك، أو تُنزِل عليَّ سخطك، لك العُتبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوَّة إلا بك))؛ رواه: الطبراني في "الكبير"، وابن جرير في "التاريخ"، وابن سعد في "الطبقات"، وحسَّنه الإمام السيوطي في "الجامع الصغير من حديث البشير النذير".
كان ابن عَطاء يقول في مُناجاته: ماذا وجَد من فقَدَك؟ وما الذي فقَد مَن وجَدَك؟ لقد خابَ مَن رضِي بدونك بدلاً، ولقد خَسِرَ مَن بغى عنك متحولاً.
أيُّها الظالمون، أيُّها البُغاة المفسدون، ربما تكسبون جولةً هي فوزٌ ومتعة في ظنِّكم، ولكنها متعةُ الحَياة الدُّنيا الزائلة، وربما أهل الحق يخسرون جولةً مع أهل الزَّيغ والضَّلال، ولكن إيَّاكم أنْ تغترُّوا بِمُتَعِهم الزائلة، وزينتهم المزيَّفة؛ ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196 - 197].
وأنتم في الحقيقة من فازَ برضا الله، والله حسبُكم، والله يَكفِيكم.
يقول ابن كثير في "تفسيره": يقول - تعالى -: لا تَنظُروا إلى ما هؤلاء الكفَّار مُتْرَفون فيه، من النِّعْمَة والغِبْطَة والسُّرور، فعَمَّا قليلٍ يزول
صَلُّوا عَلَيْهِ وَآلِهِ

بَلَغَ العُلَا بِكَمَالِهِ
كَشَفَ الدُّجَى بِجَمَالِهِ
عَظُمَتْ جَمِيعُ خِصَالِهِ

هذا كلُّه عنهم، ويصبحون مُرتَهنين بأعمالهم السيِّئة، فإنما نَمُدُّ لهم فيما هم فيه استِدراجًا، وجميع ما هم فيه ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 197].
وهذه الآية كقوله - تعالى -: ﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [لقمان: 24].
وقال - سبحانه -: ﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴾ [غافر: 4].
وقال - تعالى -: ﴿ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ﴾ [الطارق: 17].
وهكذا لَمَّا ذكَر حال الكفَّار في الدنيا، وذكَر مآلهم إلى النار، قال بعده: ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾؛ أي: ضيافة من عند الله، ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198]، فهم كسبوا منصبًا وسلطانًا وزعامةً، وربما وجاهة بين الناس، وكلها مزيفة ممقوتة في أصلها، حتى عند مَن ينبَهِرون بها ويحتَفِلون من أجلها.
أيها الأبرارُ الأطهار، يا مَن سهرتم الليالي وأجهَدتم أنفُسَكم في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل، لا تحزَنُوا؛ فكلُّ شيء مُسطَّر، وكل أمرٍ مُدبَّر بحكمة بالغة، واسمع معي بأذني قلبك قولَ ربِّك؛ ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22 - 23].
فإيَّاك أنْ تحزَن؛ فكلُّ ذلك بتدبير الله، واعلَم أنَّ للكون ربًّا يُدبِّر أمورَه، هو المالك لكلِّ شيءٍ، المتصرِّف في كونه، وأنت عبدٌ من عباده في كونه، ولو شاء أنْ يُحقِّق النجاح على يدَيْك لفعل، ولكنَّه يُؤجِّل لأجَلٍ أجَّلَه، ولوقتٍ وقَّتَه؛ ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
يقول سيد قطب في "ظلاله": ثم التفاتة واقعيَّة إلى الفتنة المستكنة في المَتاع المُتاح في هذه الأرض للكفَّار والعُصاة والمعادِين لمنهج الله، التفاتة لإعطاء هذا المَتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة، حتى لا يكون فتنةً لأصحابه، ثم كيلا يكون فتنةً للمؤمنين، الذين يُعانُون ما يُعانُون، من أذًى وإخراج من الدِّيار، وقتل وقِتال، ومعاداة لأهلِيهم وعَشائرهم، وتقلُّب الذين كفروا في البلاد، مَظهَر من مظاهر النِّعمة والوجدان، ومن مظاهر المكانة والسلطان، وهو مظهَرٌ يَحِيك في القُلوب منه شيءٌ لا محالة، يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين وهم يُعانُون الشَّظَفَ والحِرمان، ويُعانُون الأذَى والجهد، ويُعانُون المُطارَدة أو الجهاد، وكلها مشقَّات وأهوال، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستَمتِعون، ويحيك منه شيءٌ في قلوب الجماهير الغافلة، وهي ترى الحقَّ وأهله يُعانُون هذا العَناء، والباطل وأهله في مَنْجَاةٍ، بل في مَسلاة! ويحيك منه شيء في قلوب الضالِّين المبطلين أنفسهم؛ فيزيدهم ضَلالاً وبطرًا ولجاجًا في الشر والفساد، هنا تأتي هذه اللمسة: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196 - 197].
متاع قليل ينتهي ويذهب، أمَّا المأوى الدائم الخالد، فهو جهنَّم وبئس المهاد، وفي مُقابِل المتاع القليل الذاهب جنَّات وخلود وتكريمٌ من الله؛ ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198]، وما يشكُّ أحدٌ يضَع ذلك النصيب في كِفَّة، وهذا النصيب في كِفَّة، أنَّ ما عند الله خيرٌ للأبرار، وما تبقى في القلب شبهةٌ في أنَّ كفَّة الذين اتَّقَوْا أرجح من كفَّة الذين كفَرُوا في هذا الميزان، وما يتردَّد ذو عقلٍ في اختِيار النَّصيب الذي يختارُه لأنفُسهم أولو الألباب!
إنَّ الله - سبحانه - في موضع التربية، وفي مَجال إقرار القِيَم الأساسيَّة في التصوُّر الإسلامي - لا يَعِدُ المؤمنين بالنَّصر، ولا يعدهم بقهْر الأعداء، ولا يَعِدُهم بالتَّمكين في الأرض، ولا يَعِدُهم شيئًا من الأشياء في هذه الحياة ممَّا يَعِدُهم به في مواضع أخرى، وممَّا يكتُبُه على نفسه لأوليائه في صِراعهم مع أعدائه، إنَّه يَعِدُهم هنا شيئًا واحدًا هو ﴿ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ ﴾.
فهذا هو الأصل في هذه الدَّعوة، وهذه هي نقطة الانطِلاق في هذه العقيدة: التجرُّد المطلق من كلِّ هدف ومن كلِّ غاية، ومن كلِّ مَطمَع حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله، وقهْر أعداء الله، حتى هذه الرَّغبة يريد الله أنْ يتجرَّد منها المؤمنون، ويَكِلُوا أمرَها إليه، وتتخلَّص قلوبُهم من أنْ تكون هذه شَهوةً لها ولو كانت لا تخصُّها!
هذه العقيدة عَطاء ووفاء وأداء فقط، وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصرٍ وغلبة وتمكين واستِعلاء، ثم انتظار كلِّ شيء هناك!
ثم يقَع النَّصر، ويقَع التمكين، ويقَع الاستِعلاء، ولكن هذا ليس داخِلاً في البَيْعة، ليس جُزءًا من الصَّفقة، ليس في الصَّفقة مُقابِل في هذه الدنيا، وليس فيها إلاَّ الأداء والوَفاء والعَطاء والابتِلاء.
على هذا كانت البَيْعة والدعوة مُطارَدة في مكَّة، وعلى هذا كان البيع والشراء، ولم يمنَح الله المسلمين النَّصر والتَّمكين والاستِعلاء، ولم يُسلِّمهم مَقالِيدَ الأرض وقِيادة البشريَّة - إلاَّ حين تجرَّدوا هذا التجرُّد، ووفوا هذا الوفاء.
عن جابرٍ - رضِي الله عنه - قال: "... فاجتَمَعنا عِندَه من رجلٍ ورجلين حتى توافَيْنا فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايِعك؟ قال: ((تُبايِعوني على السَّمع والطَّاعة، في النَّشاط والكسل، والنَّفَقة في العُسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأنْ تقولوا في الله، لا تَخافون في الله لَوْمَةَ لائم، وعلى أنْ تَنصُروني؛ فتمنعوني إذا قَدِمتُ عليكم ممَّا تمنَعُون منه أنفُسَكم وأزواجَكم وأبناءكم؛ ولكم الجنة))، قال: فقُمنا إليه فبايَعناه وأخَذ بيَدِه أسعد بن زُرارة وهو من أصغَرِهم، فقال: رُوَيدًا يا أهلَ يثرب؛ فإنَّا لم نَضرِب أكبادَ الإبل إلاَّ ونحن نعلَمُ أنَّه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّ إخراجَه اليوم مفارقة العرب كافَّة وقتْل خِياركم، وأنْ تعضَّكم السُّيوف، فإمَّا أنتم قومٌ تَصبِرون على ذلك وأجرُكم على الله، وإمَّا أنتُم قومٌ تَخافُون من أنفُسِكم جَبِينة فبيِّنوا ذلك؛ فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أَمِطْ عنَّا يا أسعد، فوالله لا ندَع هذه البَيْعة أبدًا ولا نسلبها أبدًا، قال: فقُمنا إليه فبايَعناه، فأخَذ علينا وشرَط علينا، ويُعطِينا على ذلك الجنَّة"؛ رواه أحمد، وصحَّحه الألباني والحاكم وقال: إسناده جيد، ووافَقه الذهبي.
هكذا "الجنة"، والجنة فقط، لم يقل: النصر والعز، والوحدة والقوة، والتمكين والقيادة، والمال والرَّخاء ممَّا منَحَهُم الله وأجْراه على أيدِيهِم، فذلك كلُّه خارجٌ عن الصَّفقة!
وهكذا ربح البَيْع ولا نقيل ولا نستقيل، لقد أخَذُوها صفقةً بين مُتَبايعين؛ أنهي أمرها، وأمضي عقدها، ولم تعد هناك مساومة حولها!
وهكذا ربَّى الله الجماعة التي قدَّر أنْ يضع في يدها مَقالِيد الأرض، وزِمام القيادة، وسلَّمها الأمانة الكُبرى بعدَ أنْ تجرَّدت من كلِّ أطماعها، وكلِّ رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختصُّ منها بالدَّعوة التي تحملها، والمنهج الذي تُحقِّقه، والعقيدة التي تَمُوتُ من أجلها، فما يَصلُح لحمل هذه الأمانة الكبرى مَن بقي له أَرَبٌ لنفسه في نفسه، أو بقيَتْ فيه بقيَّة لم تَدخُل في السِّلم كافَّة.
ثم يَجِيء الإيقاع الأخير في نِداء الله للذين آمَنُوا، وتلخيص أعباء المنهج، وشرط الطريق؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
إنَّه النِّداء العُلْوي للذين آمَنوا، نداؤهم بالصِّفة التي تربطهم بمصدر النِّداء، والتي تُلقِي عليهم هذه الأعباء، والتي تُؤهِّلهم للنِّداء وتُؤهِّلهم للأعباء، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، النِّداء لهم بالصبر والمصابرة، والمرابطة والتقوى.
وكذلك بالدَّعوة إلى الاحتِمال والمجاهدة، ودفْع الكيد وعدَم الاستِماع لدُعاة الهزيمة والبَلبَلة، والصبر هو زادُ الطريق في هذه الدعوة، إنَّه طريق طويل شاقٌّ، حافل بالعَقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء.
الصبر على أشياء كثيرة؛ الصبر على شَهوات النفس ورَغائبها، وأطماعها ومَطامِحها، وضَعْفها ونقْصها، وعجَلتها وملالها من قريب!
والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضَعفهم وجَهلهم وسُوء تصوُّرهم، وانحِراف طباعهم، وأثرتهم، وغُرورهم، والتِوائهم، واستعجالهم للثمار!
والصبر على تنفُّج الباطل، ووَقاحة الطُّغيان، وانتِفاش الشرِّ، وغلَبَة الشَّهوة، وتَصعِير الغُرور والخُيَلاء!
والصبر على قلَّة الناصر، وضعف المُعِين، وطُول الطَّريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضِّيق!
والصبر على مَرارة الجهاد لهذا كلِّه، وما تُثِيره في النَّفس من انفِعالات مُتنوِّعة؛ من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثِّقة أحيانًا في الخير، وقلَّة الرَّجاء أحيانًا في الفِطرة البشريَّة؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط!
والصبر بعد ذلك كلِّه على ضبْط النفس في ساعة القُدرة والانتِصار والغلبة، واستِقبال الرَّخاء في تَواضُع وشُكر، وبدون خُيَلاء وبدون اندِفاع إلى الانتِقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبَقاء في السرَّاء والضرَّاء على صلة بالله، واستسلامٍ لقدَرِه، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثِقة وخُشوع.
والصبر على هذا كلِّه وعلى مثله ممَّا يُصادِف السالك في هذا الطريق الطويل لا تُصوِّره حقيقة الكلمات؛ فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المُعاناة، إنما يُدرِك هذا المدلول مَن عانَى مشقَّات الطريق، وتذوُّقها انفعالات وتجارب ومَرارات! والذين آمَنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة مِن ذلك المدلول الحقيقي، فكانوا أعرف بمذاق هذا النِّداء، وكانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يُزاوِلوه.
والمصابرة، وهي مُفاعَلة من الصبر، مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يُحاوِلون جاهِدين أنْ يفلُّوا من صبر المؤمنين، مصابرتها ومصابرتهم، فلا يَنفَد صبر المؤمنين على طُول المجاهدة، بل يظلُّون أصبر من أعدائهم وأقوى؛ أعدائهم من كَوامِن الصدور وأعدائهم من شِرار الناس سواء، فكأنَّما هو رِهان وسِباق بينهم وبين أعدائهم، يُدعَون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار، ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأنْ يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء، وإذا كان الباطل يصرُّ ويصبر ويَمضِي في الطريق، فما أجدر الحق أنْ يكون أشدَّ إصرارًا وأعظم صَبرًا على المُضِيِّ في الطريق! ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 6]، الكفَرَة والفسَقَة وأهل الضلال يُصبِّرون أنفسهم فما أجدرنا بهذا منهم!
والمرابطة الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثُّغور المعرَّضة لهجوم الأعداء، وقد كانت الجماعة المُسلِمة لا تغفل عيونها أبدًا ولا تستَسلِم للرقاد، فما هادَنها أعداؤها قطُّ، منذ أنْ نُودِيت لحمل أعباء الدَّعوة، والتعرُّض بها للناس؛ "في ظِلال القُرآن" بتصرُّف كبير.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
والصلاة والسلام على مَن:
نعيش حالةً من السَّعادة والطمأنينة وراحة البال في مَواسِم الخير ونَفحات الرحمن، وعندما نُقدِّم أيَّ عملٍ من أعمال الخير، وخاصَّة عند الجهاد في سبيل الله بالقتال أو بالكلمة أو اللسان، أو بمحارَبة الفَساد والمفسدين بشتَّى الأعمال، تَجِد صَفاء الرُّوح وطمأنينة النَّفس وقرَّة العين، وبعد انقِضاء الأيَّام الطيِّبة هذه تتغيَّر الحال؛ فقلقٌ واضطراب وفتور، أو على الأقلِّ لا نشعُر بما كُنَّا نشعُر به في أيَّام التضحية والفِداء، والدِّفاع عن الإسلام وعن دين الله، ونشر الخير في المجتمع، ولا سيَّما إذا لم يُحقِّق العمل والجهاد والتضحية الثَّمرة المرجوَّة، فإذا لم نُحقِّق نَجاحًا ظاهِرًا ولم نجنِ ثمرةً يانعة، حزن القلب، ودمعَتِ العين، وخيَّم الصمت، وانتابَنا شُعورٌ مُضادٌّ قد يُؤدِّي بالبعض إلى ضعْف الثِّقة أحيانًا في الخير، وقلَّة الرَّجاء أحيانًا في الفِطرة البشريَّة، والملل والسأم واليأس والقُنوط أحيانًا.
فما السبب في هذه الحال التي نكون عليها في هذه الأيَّام؟
وما السبب في تغيُّرها وانتهاء ثمرتها؟
وكيف الوُصول إلى شُعورٍ للراحة والسَّعادة دائمًا؟
وكيف الوُصول إلى عِلاج ودَواء ناجع لهذه الحالة؟
فإلى اليائسين من أبناء الوطن، إلى المُحبطِين إلى الحقِّ المستكين، إلى الباحثين عن الحق والسعادة ورضا ربِّهم، وإلى الباطل المُنتَفِش، إليهم جميعًا هذه الكلمات.
يقول الشاعر الباحث عن رضا ربِّه حتى لو خسر كلَّ شيء في الدنيا وما عليها، وحتى لو ذَاق الأمرَّين:


وللهِ درُّ القائِل:

الجمعة، 20 مايو 2011

زهرة في زمن آخر

كتبوا على الأزهار بلون العشق أحلى جراح
وروا الترب بسيلاٍ من دماءِ عشقاٍ وهيام
حصدوا مسكاً عطر أرضاً شبلاٌ يحمل زاداً
وأمرأة تبك صلاح شيخاٌ يربت في أرضاً
كجزع النخيل أقوى متراس وعجوز
في يدها مفتاح وطوب الأرض للخبز مئواً فيه يرتاح
ورجالاً تحمل بجنب الصدر أقوى سلاح
قرآن الفجر يصدح كل صباح والعاديات سورة
في القرآن تدعوا لجهاد في الفجر يداوي الجراح
وأمتنا باتت مشغولة في برشة وريال
وأمتنا تقول معذرة فللبيت ربٌ يحميه
ونقول يا أمتنا للحق رجالا لن تنفيه...

الاثنين، 9 مايو 2011

أحلام بين جدران الحجرة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تجلس "سلى" في مكتبِها، وكعادتها تهرب من الواقع الذي تعيشه بالكتابة والتنفيس عن أحزانِها، فهي كغيرها من النِّساء، تريد أن تتزوَّج وتعشق وتكون أمًّا، فلماذا يموت الحلم في قلبها؟ وشردتْ بذاكرتِها عندما تقدَّم لها ابنُ خالِها "سالم" طالبًا يدَها، ورفض والدُها رفضًا قاطعًا، رغم الامتيازات التي يتميز بها سالم، فهو حُلم كلِّ فتاة، شاب لا يعوَّض، وتتذكر حرقةَ قلبِ أمها، ورغم محاولتها بإقناعه بأنْ يزوِّج ابنتَهما الوحيدة، وصرخة أبيها الذي جعلها تفيق من ذاكرتِها وهو يقول: "لن أزوِّجَ ابنتي إلا لأحد أفراد قبيلتنا، ولن أتراجعَ عن قراري، حتى ولو ظلَّتْ آنسةً طِيلة حياتها"، فتسقط دمعةٌ من عينيها، وتتجه إلى مرآتها التي اعتادت دائمًا النَّظرَ إليها لتنظرَ أنَّ الشَّيْب قد غزا شعرَها، ولم يرحمها كما فعل والدُها، فذهبتْ إلى دولابِها وأخرجتْ من وسط ملابسِها دُمْيَةً كانتْ تحتفظ بها عندما كانت صغيرة وتحدِّثُها بأحلامها وطموحها، فكيف تبوح برغبتها في الزواج كما فعل أشقاؤها؟ عندما أصرُّوا على أبيهم أنْ يزوجهم من بناتِ خالهم؛ وذلك لأنَّ والدَهم لم يكن محبوبًا من أبناء قبيلته؛ لسوء أخلاقه بينهم، وخوفهم أنْ يتصف أبناؤه بتلك الصفات.

فتخرج من حجرتها التي شعرت بأنها أصبحت كئيبةً وذات لون أسودَ بكلِّ ركنٍ من أركانها، فخرجتْ؛ لعلَّها تستنشق الهواءَ الذي حُرمتْ منه، وتغرق في أحلامها عندما تنظر إلى زوجاتِ أخيها كيف تكون المرأة زوجةً وأمًّا، بعيدًا عن حمل الدُّمى والتخيل القاتل.

خرجتْ "سلى" لتجدَ زوجاتِ أخيها يتحدثْنَ عن الموضة والأزياء وآخرِ صيحات الصبغات وقصات الشعر، فقد حرمت نفسَها مما تفعله الفتيات في عمرها، وتتذكر صوتَ أمِّها - رحمها الله - عندما تحذِّرُها من اهتمامها بمظهرها الخارجي، والعيب والمرفوض؛ لأنها ما زالتْ فتاةً رغم أنَّ السِّنين أكل منها أجملَ سنواتِها، وكانت زميلاتُها يستهزئن من أزيائها القديمة التي تذكرهنَّ بأيام جدتهن، رغم تفوقها في عملها، وحازت على كثير من الجوائز في مجال عملها، وحبِّ الطالبات لها؛ لأنها فرضتْ عليهن احترامَها بأخلاقها وحسن احتوائها لهن، فلم ينظروا إلى ذوقها في ملابسها؛ وإنما نظروا إلى ذوق أخلاقِها وحسن تعاملها، مما دفع "سلى" إلى الابتعاد عن الأصدقاء فأصبح الكتابُ صديقًا لها.

فهمَّتْ بالذهاب إلى حجرتها بلونها الأسود الذي يحمل أحزانًا يصعُبُ وصفها وذكرها، فكلما حاولت طيَّ آلامِها، وجدت نفسَها في نفس الدائرة مرةً أخرى.

"وبعد ثلاث ساعات" طُرِقَ الباب، فإذا بمفاجأة عمرها، أبناء أخيها جاء كلُّ واحد منهم يحمل مشاعر الحبِّ لعمتهم التي احتوتْهم طيلة حياتهم، وقدَّموا هديةً لها بمناسبة عيد ميلادها الذي نسيته كما نسيت نفسَها، والفرحة تعم وجوهَهم، فتلعثم لسانُها، أول مرة في حياتها تحتفل بهذه المناسبة، وتجدُ مَن يذكُرُها في يوم قد ماتت فيه الأحلام، أغرقت الدموع عينيها وعجزتْ عن شكرهم، فقاموا بضمها والصراخ الذي ملأ الحجرة "كل عام وأنت بخير يا سلى أحزاننا وآلامنا"، فضحكت وشكرتهنَّ وقدموا الهدية وكانت عبارة عن "جهاز الحاسوب".

وبعد الاحتفال خرج الجميعُ من الحجرة، وبدأتْ "سلى" بِعَدِّ عمرها الذي نستْه منذ زمن قديم، حتى تفاجأت بأنها بلغت "التاسعة والثلاثين"، أهكذا عجلةُ الزمان تمضي ويمضي العمر معه؟ أهكذا تذوب الزهور؟ فقامت بفتح الجهاز ودخلتْ على الإنترنت والمحادثات، وكأنها فتاة في التاسعة عشرة من عمرها، وبدأت في المحادثات وبالنُّصح والإرشاد، وفعلت ما لم تفعله طيلة حياتها، وتعرفت خلال حديثها على رجلٍ زعم أنَّ عمره أربعون عامًا وينحدر من نفس قبيلتِها، وعندما سألها عن اسمِها وشخصيتها طلبت منه مهلة حتى تصرح بحقيقتها؛ لأنها لا تريد أن تخوضَ شيئًا إلا بعد تفكير عميق، وظلا يتحدثانِ حتى الفجر، وتواعدا بإكمال حديثهما في اليوم الثاني في الساعة التاسعة مساء.

وعندما أغلقت جهازَ الحاسوب بدأت بمحاسبة نفسها وماذا فعلت، لم تكن لتخطئ يومًا، أبعد أن كَبِرَتْ ووصلت إلى سنِّ النضج تفعل ما تفعلُه الآن؟ ولكنَّها أحسَّت بمشاعرَ لا تستطيع أن تقاومَها، وإحساسٍ لأول مرة تشعر بحلاوته ولذَّته، وفي الوقت المحدَّد تدخل حجرتَها، وتبدأ الحديثَ مع من استطاع التَّسلُّلَ إلى قلبها دون سابق إنذار، وظل محترِمًا رغبتها بعدم الفصح عن هويتها، ثم بدأت الاهتمام بمظهرها، وطلبت من بنات أخيها مساعدتها في ذلك، ولأول مرة تشعر بأنَّ الحياة قد دبت في قلبِها، وأصبحت أصغرَ من سنِّها، تعجَّب الأشقاء مما أصاب شقيقتهم وكذلك زوجاتُهم؛ الابتسامة لا تفارقها، والأمل يشع من عينيها، ظنَّ الجميع أنها أصيبت بسن المراهقة المتأخِّرة.

وهكذا ظلتْ "سلى" بنشوة الشباب المفعمة بالحيوية، التي ماتت في يوم من الأيام، ها هي تتجدد من جديد كما يتجدد الرَّبيع بعد الخريف، فأصبحت ترسم شكلَه ولونه وطوله، وترسم الأحلام بأن تكون أمًّا، تسمع صوت الأطفال في كلِّ مكان، وتسمع بالباب صوت الجارات، جئْنَ يحمِلْن دلة القهوة ويجلسن معها لتبادل الحوارات، حتى فاقت من أحلامها على صوت ابنة أخيها "عمتي، ممكن أن أستعير منك جهازك الخاص؛ لأني مُكلَّفة بإجراء بحث في مادة الأحياء وجهازي معطل".

أمام طلبِها شعرت بأنَّ رأسها يدور، كيف لها أن تتنازل ولو ليوم واحد عن مصدر سعادتِها وإحساسها بأنوثتها، فوافقت على مضض، فما الحجج التي ستقدمها لابنة أخيها؟ وظلَّتْ تدور في حجرتها كالتَّائهة لا تعرف إلى أين تذهب، حان موعد التواصل بينهما فماذا تفعل؟ قلبها يرتجف خوفًا أن تضيع الأحلامُ منها بعد أن وجدتها من جديد، وظلَّتْ على حالها حتى أشرقت الشمس، وبانت تباشير الصباح تحمل معها خيوط الأحلام، فأخذت تسحب أرجلها بهدوء تامٍّ متوجهة إلى حجرة ابنة أخيها ووجدتها نائمةً، فحملت سعادتها بهدوء إلى حجرتها، فدخلت لتبحث عن حبيبها؛ ولكنه ترك لها رسالة على صندوقها البريدي قائلاً: "انتظرتك طويلاً ولا أعرف ما الأسباب التي منعتك عني، ولكن أريد أن أخبرَك يا حبيبتي أنني سأغيب عنك ليومين لضرورةٍ ملحَّة، وسأبعث لك برسالةٍ للتواصل، أحبك".

أخذت تبكي بحرقة إلى أين سيذهب، كيف سأتحمل بُعدَه عني؟ إلى الآن لم أصارحه بمن أنا، من هو؟ أحببته من قلبي ووجداني، كيف استسلمت للطفلة التي في قلبي ونسيت مبادئي وقيمي؟ أهكذا يفعل الحزن بنا؟ أهكذا نندفع نحو عواطفنا؟

ومرَّ اليومان وعاد الاتصال بينهما، فطلب منها أن تفصح عن هويتها ومن هي، ترددت، وقال: "أين الحب الذي تقولين عنه؟"، فطلب منها أن تقابلَه في مكانٍ عام "كرنيش أبو ظبي"، وتحدِّد إذا كانت ترغب بالإفصاح عن هويتها.

وبعد أن انتهى من المحادثة، بدأتْ تشعر بأنَّ الخوفَ قد دبَّ إلى قلبها من جديد، فهل سيقبلها زوجةً بعد أن تعرفت عليه من هذا الجهاز اللعين الذي سرق منها عقلها وقلبها؟ كيف لنا أن نلوم الفتيات على سقوطهنَّ للهاوية وأنا وقعتُ في هذا العمر خلف أحلامي وآمالي؟

وفي الوقت المحدد طلبتْ من بنات أخيها الذهابَ معها لقضاء نزهةٍ في الكرنيش، تعجبت الفتيات من هذا الموقف من عمتهنَّ التي عرف عنها الانطواء وغلق الباب على نفسِها، ومع ذلك رحَّبْنَ بالفكرة عسى أن تسعد عمتُهن التي حُرِمَتْ من السعادة طيلة عمرها.

خرجنَ جميعًا وأخذت بلهفة الطفلَ الصغير تبحث عن السعادة المفقودة؛ لتتشبث بثوب السعادة كما يتشبث الطفل الصغير بثوب أمه.

وأخذتْ تستلقي النظر وتتفرَّس الوجوهَ عسى أن تجد فارس أحلامها الذي غرس الفرحةَ في قلبها، بعد أن سُرقت منها في حياة والدها، وبينما هن يسرن صادفنَ رجلاً كبيرًا في السن يبلغ الخمسين من عمره، وكأنَّه طفلٌ صغيرٌ يبحث عن شيءٍ تاه منه، وشعرت "سلى" أنَّ قلبها يناجيه؛ ولكن لم يكن هو الحبيب؛ فهذا رجل عاجز عن المشي، ووجهه الأيمن مشوه تشويهًا تامًّا يصعب مشاهدتُه، وإحدى عينيه فاقدة البصر، والخوف تسلل قلبها، هل يكون حبيبَها؟ حتى قاطع أفكارها وخوفها صوت امرأة كبيرة في السنِّ، جاءت لتأخذ هذا الرجل العاجز مخاطبةً له: "يكفيك يا قرةَ عيني، هيا لنعود إلى المنزل"، ونظرات الشفقة تعتريها وتحمد اللهَ بأنه لم يكن حبيبها، ولكن أين الحبيب الذي ظلَّت عيناها تبحث عنه؟ وعادت إلى المنزل وكلها حزنٌ وألم.

وعندما عادتْ "سلى" إلى المنزل ولم تجد حبيبَ قلبها وفارسَ أحلامها، جلست أمام الحاسوب وفتحتْ صندوق رسائلها لتجد رسالةً من الحبيب، وظنت بأنه بعث رسالةَ اعتذار معتذرًا عن الموعد الذي كان بينهما، لتفاجأ يقول لها: "أشكرك على أجمل اللَّحظات التي عشتها معك خلال هذه الفترة، ولكنِّي أطلب منك أن تعذريني فلست كشباب اليوم الذين يتسلون بمشاعر الفتيات، ثم ينشرونها بين الصفحات التي تبين النفوس الدَّنيئة، ولكني أريد أن أقول لك حقيقتي التي أخفيتها عنك رغم صدق مشاعري بحبي لك؛ لأنك أنت الفتاة الوحيدة التي تملَّكت قلبي، ولساني عاجز عن قول الحقيقة؛ فلذلك بعثتها مجسدة في هذه الصورة، شاهديها ولكنك بعد أن تشاهديها اعلمي بأني سأختفي من حياتك للأبد"، تعجبت من قوله، وفتحت المرفق حتى شعرت بأن الدنيا تدور من حولها، فذلك الرجل التي شعرت بالشفقة نحوه هو حبيبُها، إذًا من تلك المرأة التي كانت معه هل زوجته؟ أم أخته؟ غاب ولكنه تركها في حيرةٍ من تلك المرأة التي كانت معه، هل خدعها؟ أخذت الأفكار تحوم في ذهنها، ولكن في النهاية غابت الأحلام والسعادة التي رسمتْ، وبقي في القلب جرحٌ عميق لن يستطيعَ الزَّمان مداواته، فحبه ما زال مغروسًا في قلبها، وظلت على حالها ثلاثة شهور، كلما دخلت إلى حجرتها تنظر إلى ذلك الجهاز اللعين، إلى الذي بات يتلاعب بمشاعر الآخرين ويحمل معه الأحلام الكاذبة باسم الحب، وأخذت تنشر قصتَها في كل المواقع محذرة الفتيات من وهمٍ اسمُه الحبُّ عبر خطوط ومسافات يصعب تحسس صدق المشاعر فيها، وإن وُجدت لا بد أن تكون مهشمةً كالزُّجاج الذي يجرح ممسكَه، فهذه الحقيقة التي تخجل التصريحَ بها؛ حيث أهانت نفسَها وكرامتها عبر جهاز يحمل معه كلمات الحب والغرام وأحلامًا محطَّمة بين جدران الحجرة.

الأحد، 8 مايو 2011

دموع الورد إذ تخجل

كتبت رسالتي ولا أدري لمن تكتب
نسجت حروفها بدموع الورد
كتبت عليها لمن  أجمل
فاحترت من  الأجمل
ربابُ الشوق ,ربابُ أزهر
ربابُ الشوقِ تبسم وقل من الأجمل
فرسالتي تلك حائرة تبحث عن ...,
ورسالتي كتبت بدموع الوردِ
فهل يرضيك أن تذبلْ
فهل يرضيك أن تذبلْ
فهل يرضيك أن تذبلْ
إليك فراشتي لا تدعي الورد يزبل
بقلم حسا م الحق قبل لحظات من الآن
  


السبت، 7 مايو 2011

لهفة الحنين بين يدي مسكين

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أصبحتُ وأصبح الحُزنُ يطلُّ مع أنوار الشَّمس، إذْ يحطُّ حزنه في كلِّ ركنٍ من الأركان، منها ينبعثُ أنينُ الضُّعفاء من ألم بداية مشوارِ يومٍ من أيام الحياة، يتملَّك الفكرَ عناءٌ وشقاء، كأنَّ الأرضَ ضاقتْ بما رحُبتْ على من لا سندَ له في وجه صعابِ الحياة، من يعطي اليتيمَ دفئَ الحنان، دمعةُ المظلومِ تريدُ نصرةً فمَن يا ترى لها؟ الفقير في دروب الحياةِ يسير، من يعطيه شيئًا يسيرًا، حتَّى يقدرَ على المسير.

المسكينُ في لهفةٍ للحنين، يا من تحبُّ الخيرَ كن له عونًا ونصيرًا، في الأرض فللٌ وقصور، إسرافٌ وتبذير، غناءٌ وفجور، ضحكاتٌ وعري فاق البهيميةَ التي لا تملكُ العقولَ.

أمسيتُ وأمسى الألمُ حاضرًا وذاهبًا مع شفقاتِ غروب الشَّمس.

الطَّيرُ عائدٌ يبكي ينادي بين قممِ الجبال: الرَّحمة أيها الإنسان.

أوقفت قلبي الصَّغير، أرهبت عيني، شللت جناحي بشلالِ دماء أخيك، يا ألله، الضَّعيفُ والمظلوم بجنبك لاذَ يرجو نصرَك يا كريمُ يا حنَّانُ، يا منَّانُ، الفقيرُ والمسكين حتَّى اليتيم، يحتاج للحنين، فافتحْ خزائنَك يا رحيم.

الأملُ وذَهابُ الألم، بكتابِ الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أثر أصحابه الأخيار، والصَّلاة والسلام على نبي الهداية محمد - صلى الله عليه وسلم.
فهل يبقى للأمل مكان ومن ذا الذي يخفف عن هذا المسكين مصاعب الحياة
لقد ملت يداه من التجديف بلا مجداف
فكتب هذا المسكين رسالة حبلى بالآهاااااااات والآناااااااااات
علها تجد من يدركها قبل مخاضها
ربما تعلمون أو لا تعلمون من هذا المسكين
الذي أطرق رأسه خجلا وبلل ثوبه في حطين
عله يجد من رائحة صلاح الدين عودا من طيب
*حسام الحق*
حسام الحق