الاثنين، 9 مايو 2011

أحلام بين جدران الحجرة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تجلس "سلى" في مكتبِها، وكعادتها تهرب من الواقع الذي تعيشه بالكتابة والتنفيس عن أحزانِها، فهي كغيرها من النِّساء، تريد أن تتزوَّج وتعشق وتكون أمًّا، فلماذا يموت الحلم في قلبها؟ وشردتْ بذاكرتِها عندما تقدَّم لها ابنُ خالِها "سالم" طالبًا يدَها، ورفض والدُها رفضًا قاطعًا، رغم الامتيازات التي يتميز بها سالم، فهو حُلم كلِّ فتاة، شاب لا يعوَّض، وتتذكر حرقةَ قلبِ أمها، ورغم محاولتها بإقناعه بأنْ يزوِّج ابنتَهما الوحيدة، وصرخة أبيها الذي جعلها تفيق من ذاكرتِها وهو يقول: "لن أزوِّجَ ابنتي إلا لأحد أفراد قبيلتنا، ولن أتراجعَ عن قراري، حتى ولو ظلَّتْ آنسةً طِيلة حياتها"، فتسقط دمعةٌ من عينيها، وتتجه إلى مرآتها التي اعتادت دائمًا النَّظرَ إليها لتنظرَ أنَّ الشَّيْب قد غزا شعرَها، ولم يرحمها كما فعل والدُها، فذهبتْ إلى دولابِها وأخرجتْ من وسط ملابسِها دُمْيَةً كانتْ تحتفظ بها عندما كانت صغيرة وتحدِّثُها بأحلامها وطموحها، فكيف تبوح برغبتها في الزواج كما فعل أشقاؤها؟ عندما أصرُّوا على أبيهم أنْ يزوجهم من بناتِ خالهم؛ وذلك لأنَّ والدَهم لم يكن محبوبًا من أبناء قبيلته؛ لسوء أخلاقه بينهم، وخوفهم أنْ يتصف أبناؤه بتلك الصفات.

فتخرج من حجرتها التي شعرت بأنها أصبحت كئيبةً وذات لون أسودَ بكلِّ ركنٍ من أركانها، فخرجتْ؛ لعلَّها تستنشق الهواءَ الذي حُرمتْ منه، وتغرق في أحلامها عندما تنظر إلى زوجاتِ أخيها كيف تكون المرأة زوجةً وأمًّا، بعيدًا عن حمل الدُّمى والتخيل القاتل.

خرجتْ "سلى" لتجدَ زوجاتِ أخيها يتحدثْنَ عن الموضة والأزياء وآخرِ صيحات الصبغات وقصات الشعر، فقد حرمت نفسَها مما تفعله الفتيات في عمرها، وتتذكر صوتَ أمِّها - رحمها الله - عندما تحذِّرُها من اهتمامها بمظهرها الخارجي، والعيب والمرفوض؛ لأنها ما زالتْ فتاةً رغم أنَّ السِّنين أكل منها أجملَ سنواتِها، وكانت زميلاتُها يستهزئن من أزيائها القديمة التي تذكرهنَّ بأيام جدتهن، رغم تفوقها في عملها، وحازت على كثير من الجوائز في مجال عملها، وحبِّ الطالبات لها؛ لأنها فرضتْ عليهن احترامَها بأخلاقها وحسن احتوائها لهن، فلم ينظروا إلى ذوقها في ملابسها؛ وإنما نظروا إلى ذوق أخلاقِها وحسن تعاملها، مما دفع "سلى" إلى الابتعاد عن الأصدقاء فأصبح الكتابُ صديقًا لها.

فهمَّتْ بالذهاب إلى حجرتها بلونها الأسود الذي يحمل أحزانًا يصعُبُ وصفها وذكرها، فكلما حاولت طيَّ آلامِها، وجدت نفسَها في نفس الدائرة مرةً أخرى.

"وبعد ثلاث ساعات" طُرِقَ الباب، فإذا بمفاجأة عمرها، أبناء أخيها جاء كلُّ واحد منهم يحمل مشاعر الحبِّ لعمتهم التي احتوتْهم طيلة حياتهم، وقدَّموا هديةً لها بمناسبة عيد ميلادها الذي نسيته كما نسيت نفسَها، والفرحة تعم وجوهَهم، فتلعثم لسانُها، أول مرة في حياتها تحتفل بهذه المناسبة، وتجدُ مَن يذكُرُها في يوم قد ماتت فيه الأحلام، أغرقت الدموع عينيها وعجزتْ عن شكرهم، فقاموا بضمها والصراخ الذي ملأ الحجرة "كل عام وأنت بخير يا سلى أحزاننا وآلامنا"، فضحكت وشكرتهنَّ وقدموا الهدية وكانت عبارة عن "جهاز الحاسوب".

وبعد الاحتفال خرج الجميعُ من الحجرة، وبدأتْ "سلى" بِعَدِّ عمرها الذي نستْه منذ زمن قديم، حتى تفاجأت بأنها بلغت "التاسعة والثلاثين"، أهكذا عجلةُ الزمان تمضي ويمضي العمر معه؟ أهكذا تذوب الزهور؟ فقامت بفتح الجهاز ودخلتْ على الإنترنت والمحادثات، وكأنها فتاة في التاسعة عشرة من عمرها، وبدأت في المحادثات وبالنُّصح والإرشاد، وفعلت ما لم تفعله طيلة حياتها، وتعرفت خلال حديثها على رجلٍ زعم أنَّ عمره أربعون عامًا وينحدر من نفس قبيلتِها، وعندما سألها عن اسمِها وشخصيتها طلبت منه مهلة حتى تصرح بحقيقتها؛ لأنها لا تريد أن تخوضَ شيئًا إلا بعد تفكير عميق، وظلا يتحدثانِ حتى الفجر، وتواعدا بإكمال حديثهما في اليوم الثاني في الساعة التاسعة مساء.

وعندما أغلقت جهازَ الحاسوب بدأت بمحاسبة نفسها وماذا فعلت، لم تكن لتخطئ يومًا، أبعد أن كَبِرَتْ ووصلت إلى سنِّ النضج تفعل ما تفعلُه الآن؟ ولكنَّها أحسَّت بمشاعرَ لا تستطيع أن تقاومَها، وإحساسٍ لأول مرة تشعر بحلاوته ولذَّته، وفي الوقت المحدَّد تدخل حجرتَها، وتبدأ الحديثَ مع من استطاع التَّسلُّلَ إلى قلبها دون سابق إنذار، وظل محترِمًا رغبتها بعدم الفصح عن هويتها، ثم بدأت الاهتمام بمظهرها، وطلبت من بنات أخيها مساعدتها في ذلك، ولأول مرة تشعر بأنَّ الحياة قد دبت في قلبِها، وأصبحت أصغرَ من سنِّها، تعجَّب الأشقاء مما أصاب شقيقتهم وكذلك زوجاتُهم؛ الابتسامة لا تفارقها، والأمل يشع من عينيها، ظنَّ الجميع أنها أصيبت بسن المراهقة المتأخِّرة.

وهكذا ظلتْ "سلى" بنشوة الشباب المفعمة بالحيوية، التي ماتت في يوم من الأيام، ها هي تتجدد من جديد كما يتجدد الرَّبيع بعد الخريف، فأصبحت ترسم شكلَه ولونه وطوله، وترسم الأحلام بأن تكون أمًّا، تسمع صوت الأطفال في كلِّ مكان، وتسمع بالباب صوت الجارات، جئْنَ يحمِلْن دلة القهوة ويجلسن معها لتبادل الحوارات، حتى فاقت من أحلامها على صوت ابنة أخيها "عمتي، ممكن أن أستعير منك جهازك الخاص؛ لأني مُكلَّفة بإجراء بحث في مادة الأحياء وجهازي معطل".

أمام طلبِها شعرت بأنَّ رأسها يدور، كيف لها أن تتنازل ولو ليوم واحد عن مصدر سعادتِها وإحساسها بأنوثتها، فوافقت على مضض، فما الحجج التي ستقدمها لابنة أخيها؟ وظلَّتْ تدور في حجرتها كالتَّائهة لا تعرف إلى أين تذهب، حان موعد التواصل بينهما فماذا تفعل؟ قلبها يرتجف خوفًا أن تضيع الأحلامُ منها بعد أن وجدتها من جديد، وظلَّتْ على حالها حتى أشرقت الشمس، وبانت تباشير الصباح تحمل معها خيوط الأحلام، فأخذت تسحب أرجلها بهدوء تامٍّ متوجهة إلى حجرة ابنة أخيها ووجدتها نائمةً، فحملت سعادتها بهدوء إلى حجرتها، فدخلت لتبحث عن حبيبها؛ ولكنه ترك لها رسالة على صندوقها البريدي قائلاً: "انتظرتك طويلاً ولا أعرف ما الأسباب التي منعتك عني، ولكن أريد أن أخبرَك يا حبيبتي أنني سأغيب عنك ليومين لضرورةٍ ملحَّة، وسأبعث لك برسالةٍ للتواصل، أحبك".

أخذت تبكي بحرقة إلى أين سيذهب، كيف سأتحمل بُعدَه عني؟ إلى الآن لم أصارحه بمن أنا، من هو؟ أحببته من قلبي ووجداني، كيف استسلمت للطفلة التي في قلبي ونسيت مبادئي وقيمي؟ أهكذا يفعل الحزن بنا؟ أهكذا نندفع نحو عواطفنا؟

ومرَّ اليومان وعاد الاتصال بينهما، فطلب منها أن تفصح عن هويتها ومن هي، ترددت، وقال: "أين الحب الذي تقولين عنه؟"، فطلب منها أن تقابلَه في مكانٍ عام "كرنيش أبو ظبي"، وتحدِّد إذا كانت ترغب بالإفصاح عن هويتها.

وبعد أن انتهى من المحادثة، بدأتْ تشعر بأنَّ الخوفَ قد دبَّ إلى قلبها من جديد، فهل سيقبلها زوجةً بعد أن تعرفت عليه من هذا الجهاز اللعين الذي سرق منها عقلها وقلبها؟ كيف لنا أن نلوم الفتيات على سقوطهنَّ للهاوية وأنا وقعتُ في هذا العمر خلف أحلامي وآمالي؟

وفي الوقت المحدد طلبتْ من بنات أخيها الذهابَ معها لقضاء نزهةٍ في الكرنيش، تعجبت الفتيات من هذا الموقف من عمتهنَّ التي عرف عنها الانطواء وغلق الباب على نفسِها، ومع ذلك رحَّبْنَ بالفكرة عسى أن تسعد عمتُهن التي حُرِمَتْ من السعادة طيلة عمرها.

خرجنَ جميعًا وأخذت بلهفة الطفلَ الصغير تبحث عن السعادة المفقودة؛ لتتشبث بثوب السعادة كما يتشبث الطفل الصغير بثوب أمه.

وأخذتْ تستلقي النظر وتتفرَّس الوجوهَ عسى أن تجد فارس أحلامها الذي غرس الفرحةَ في قلبها، بعد أن سُرقت منها في حياة والدها، وبينما هن يسرن صادفنَ رجلاً كبيرًا في السن يبلغ الخمسين من عمره، وكأنَّه طفلٌ صغيرٌ يبحث عن شيءٍ تاه منه، وشعرت "سلى" أنَّ قلبها يناجيه؛ ولكن لم يكن هو الحبيب؛ فهذا رجل عاجز عن المشي، ووجهه الأيمن مشوه تشويهًا تامًّا يصعب مشاهدتُه، وإحدى عينيه فاقدة البصر، والخوف تسلل قلبها، هل يكون حبيبَها؟ حتى قاطع أفكارها وخوفها صوت امرأة كبيرة في السنِّ، جاءت لتأخذ هذا الرجل العاجز مخاطبةً له: "يكفيك يا قرةَ عيني، هيا لنعود إلى المنزل"، ونظرات الشفقة تعتريها وتحمد اللهَ بأنه لم يكن حبيبها، ولكن أين الحبيب الذي ظلَّت عيناها تبحث عنه؟ وعادت إلى المنزل وكلها حزنٌ وألم.

وعندما عادتْ "سلى" إلى المنزل ولم تجد حبيبَ قلبها وفارسَ أحلامها، جلست أمام الحاسوب وفتحتْ صندوق رسائلها لتجد رسالةً من الحبيب، وظنت بأنه بعث رسالةَ اعتذار معتذرًا عن الموعد الذي كان بينهما، لتفاجأ يقول لها: "أشكرك على أجمل اللَّحظات التي عشتها معك خلال هذه الفترة، ولكنِّي أطلب منك أن تعذريني فلست كشباب اليوم الذين يتسلون بمشاعر الفتيات، ثم ينشرونها بين الصفحات التي تبين النفوس الدَّنيئة، ولكني أريد أن أقول لك حقيقتي التي أخفيتها عنك رغم صدق مشاعري بحبي لك؛ لأنك أنت الفتاة الوحيدة التي تملَّكت قلبي، ولساني عاجز عن قول الحقيقة؛ فلذلك بعثتها مجسدة في هذه الصورة، شاهديها ولكنك بعد أن تشاهديها اعلمي بأني سأختفي من حياتك للأبد"، تعجبت من قوله، وفتحت المرفق حتى شعرت بأن الدنيا تدور من حولها، فذلك الرجل التي شعرت بالشفقة نحوه هو حبيبُها، إذًا من تلك المرأة التي كانت معه هل زوجته؟ أم أخته؟ غاب ولكنه تركها في حيرةٍ من تلك المرأة التي كانت معه، هل خدعها؟ أخذت الأفكار تحوم في ذهنها، ولكن في النهاية غابت الأحلام والسعادة التي رسمتْ، وبقي في القلب جرحٌ عميق لن يستطيعَ الزَّمان مداواته، فحبه ما زال مغروسًا في قلبها، وظلت على حالها ثلاثة شهور، كلما دخلت إلى حجرتها تنظر إلى ذلك الجهاز اللعين، إلى الذي بات يتلاعب بمشاعر الآخرين ويحمل معه الأحلام الكاذبة باسم الحب، وأخذت تنشر قصتَها في كل المواقع محذرة الفتيات من وهمٍ اسمُه الحبُّ عبر خطوط ومسافات يصعب تحسس صدق المشاعر فيها، وإن وُجدت لا بد أن تكون مهشمةً كالزُّجاج الذي يجرح ممسكَه، فهذه الحقيقة التي تخجل التصريحَ بها؛ حيث أهانت نفسَها وكرامتها عبر جهاز يحمل معه كلمات الحب والغرام وأحلامًا محطَّمة بين جدران الحجرة.

ليست هناك تعليقات: